الإمامة لغةً هي مصدر الفعل أَمَّ يَؤُمّ القوم وبالقوم تقدّمهم. ومن دلالتها اللغوية: التقدم والقدوة والرياسة والقيادة والهداية والإرشاد والقصد. والدلالة العامة لها تعني تبوؤ مكانة في الجماعة تتيح لصاحبها تسيير شؤون تلك الجماعة وإدارة مصالح أفرادها.
والإمام هو الذي يتولى الإمامة، وقد اكتسى لفظ الإمام في الإسلام دلالات دينية إضافة إلى دلالاته اللغوية، ومن دلالاته: المثال الذي يقتدون به، والكتاب المبين، والطريق الواضح، والقرآن، والنبيr، والخليفة. ومن يؤم القوم في صلاتهم، ومن له مكانة دينية تبيح له هداية قومه، والعالم المتعمق في شؤون علمه.
وقد ورد لفظ الإمام في القرآن الكريم مفرداً في سبعة مواضع وبصيغة الجمع في خمسة مواضع، بدلالات مختلفة، وفي أكثر المواضع ورد بمعنى القدوة والمثال الذي يحتذى به، ومن ذلك قوله تعالى )إنِّي جَاعلُك للنَّاس إمَاماً( (البقرة 124)، وقوله تعالى )ومن قَبلِه كِتَابُ مُوسى إمَاماً وَرَحْمَةً( (هود 17 والأحقاف12)، وقوله تعالى )وَجَعَلْنَاهم أَئِمّةً يَهدُون بِأَمْرِنا( (الأنبياء73). وورد بمعنى الولاية على الناس والقدوة كما في قوله تعالى )وَنجْعَلَهم أَئِمةً وَنَجْعَلَهُم الوَارِثين( (القصص 5)، وقوله تعالى )وجَعَلْنا مِنْهُم أَئِمةً يَهْدُون بِأَمْرِنا( (السجدة 24)، وبمعنى القيادة والرياسة على الكافرين في قوله تعالى )وجَعَلْناهُم أَئِمةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ( (القصص 41)، وفي قوله تعالى )فقَاتِلُوا أَئِمّةَ الكُفْر( (التوبة 12). وورد لفظ الإمام بمعنى الصحيفة التي تحصى فيها أعمال الناس في قوله تعالى )وكُلَّ شَيءٍ أَحْصَينَاه في إمَامٍ مُبين( (يس 12)، وكذلك في قوله تعالى )يوم ندعُو كلَّ أُناس بإمامهم( (الإسراء 71)، وورد بمعنى الطريق الواضح في قوله تعالى )فانتقمنا منهم وإنّهما لَبإمامٍ مُبين( (الحِجْر 79).
وقد أصبح للفظ الإمام منذ الإسلام دلالات أربع رئيسة هي:
1ـ من يؤمّ الناس في صلاتهم، وهذه هي الإمامة الصغرى.
2ـ من يتولى أمور المسلمين خليفة لرسول الله، وهذه هي الإمامة الكبرى.
3ـ من يتعمق في أمور الدين ويحق له الاجتهاد في هذه الأمور كالأئمة الأربعة وكبار علماء الدين.
4ـ من يتعمق في أمور العلم عامة، وفي أمور الدين خاصة، ويؤدّي للإسلام خدمات جليلة، ولكن لا يحق له الاجتهاد في أمور الدين. وقد أطلق هذا اللفظ مثلاً على العلماء الذين قاموا بجمع أحاديث الرسولr كالإمام البخاري والإمام مسلم.
وقد غلبت منذ الإسلام الدلالة الدينية للفظ «الإمام» على الدلالة اللغوية، فأطلق في صدر الإسلام على من يخلف رسول اللهr في تولي أمور المسلمين والمحاماة عنهم وعلى من يؤمّهم في صلاتهم، فكان هذا اللفظ يدل على الرياسة السياسية مع حياطة الدين، وقد ورد لفظ الإمام بهذه الدلالة في طائفة من النصوص، ولم يكن للإمام عصرئذ حق التشريع الديني، وإنما كان يعَوّل في ذلك على نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي، ولذلك كان عمر يستفتي في أمور الدين علماء المسلمين وفقهاءَهم.
والإمامة في اصطلاح الفقهاء نوعان: إمامة كبرى، وإمامة صغرى.
فالإمامة الصغرى يراد بها إمامة المسلمين في صلاتهم، وهي وظيفة دينية فصّلت كتب الفقه أصولها وشروطها.
والإمامة الكبرى ـ وهي المقصودة في هذا البحث ـ هي رياسة عامة في الدين والدنيا، خلافةً عن النبيr. وقد عرّفها الماوردي بقوله «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا» وفصّل الدهلوي القول في تعريفها فقال: «الخلافة هي الرياسة العامة في التصدي لإقامة الدين بإحياء العلوم الدينية، وإقامة أركان الإسلام، والقيام بالجهاد وما يتعلق به من ترتيب الجيوش والفروض للمقاتلة، وإعطائهم من الفيء، والقيام بالقضاء، وإقامة الحدود، ورفع المظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابة على النبيe». وخلاصة القول أن الإمامة الكبرى هي خلافة النبي عليه الصلاة والسلام في تولي أمور المسلمين فيما يتعلق بأمور دينهم ودنياهم.
مواقف الفرق الإسلامية من قضية الإمامة
والحديث هنا يتناول الإمامة الكبرى، أي الخلافة، أو إمارة المؤمنين. وثمة أمور في الإمامة تتفق حولها الفرق الإسلامية وأمور أخرى يختلفون حولها، وتتلخص هذه الأمور فيما يأتي:
أ ـ وجوب الإمامة: أكثر علماء المسلمين على أن الإمامة واجبة، لأنه لا بد للأمة من إمام يتولى أمورها ويرعى شؤونها وشؤون دينها ويجاهد أعداءها، ويتفق في هذا الرأي أهل السنة والشيعة والمرجئة وجمهور المعتزلة الخوارج، وذهب إلى عدم وجوب الإمامة نفر من الخوارج والمعتزلة. ويحتج القائلون بوجوب الإمامة بأدلة عقلية وشرعية، فهي واجبة عقلاً لأن كل مجتمع يحتاج إلى من يدبر أموره درءاً للفوضى وحرصاً على سلامته وتوفير النظام فيه. وهي واجبة شرعاً لإجماع الصحابة والتابعين على ذلك، فقد بادر المسلمون بعد وفاة النبي إلى الاجتماع في سقيفة بني ساعدة لاختيار إمام يخلف رسول اللهe في تولي شؤون المسلمين لئلا تضطرب أحوال الدولة. وقد خطب أبو بكر في الناس بعد وفاة الرسول عليه السلام فقال: «ألا إنّ محمداً قد مات، ولا بدّ لهذا الدين ممّن يقوم به» فوافقه المسلمون في رأيه، ولما قُتل عثمان أتى أصحاب رسول اللهe علياً وقالوا له: «إن هذا الرجل قد قتل ولا بُدّ من إمام»
وخالف النجدات من الخوارج والمحكّمة الأولى ونفر من المعتزلة فذهبوا إلى أن الناس لو تكافّوا عن التظالم وتناصفوا لاستغنوا عن الإمام.
ب ـ اختيار الإمام: لاختيار الإمام طرق أربع هي: البيعة، والنص، وولاية العهد، والقهر والغلبة. وقد اختلفت الفرق الإسلامية حول هذه الطرق وذهبت بها مذاهب متباينة.
فأهل السنة رأوا أن الرسولr لم يعين قبل وفاته خلفاً له، ولم يرد نص صريح على صحابي بعينه ليكون الإمام بعد الرسولr لا في كتاب الله ولا في الحديث النبوي، ولذلك أصبح الأمر شورى بين المسلمين، وهذا المبدأ هو الذي أخذ به المسلمون بعد وفاة الرسول عملاً بالآية الكريمة )وأَمْرُهم شُورَى بَيْنَهم( (الشورى 38). وقد أسفر اجتماع المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، بعد تشاورهم على مبايعة أبي بكر خليفة لرسول الله، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا نفر قليل، وأصبح أبو بكر خليفة شرعياً بموجب هذه البيعة التي تمت برضى المسلمين واختيارهم الحر. وهذه البيعة هي بمنزلة عقد شرعي يلزم المسلمين جميعاً بطاعة إمامهم والانصياع لأوامره. وقد جعل الفقهاء بعد ذلك أمر اختيار الإمام منوطاً بأهل الحل والعقد، وهم العلماء المختصون والرؤساء ووجوه الناس الذين يقومون باختيار الإمام نيابة عن الأمة. قال الماوردي: «فإذا اجتمع أهل العقد والحل للاختيار تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها، فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً وأكملهم شروطاً ومن يسرع الناس إلى طاعته ولا يتوقفون عن بيعته».
وذهب الشيعة إلى أن اختيار الإمام يكون بالنص والتعيين، لأن الإمامة ليست من الأمور التي تترك للناس، فالله قد اختار محمداً نبياً، والنبي اختار علياً خليفة بعده، وترتبط قضية الإمامة عندهم بموضوعات الوصيّة والوراثة والولاية، وهم يستندون في تقرير مبدأ النص والتعيين بأدلة مستمدة من بعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى )قل لا أَسْألُكم عَليه أجْراً إلاّ المودَّة في القُرْبَى( (الشورى 23)، ومن بعض الأحاديث النبوية كحديث غدير خم. وهم لا يقرّون للأمة بحق اختيار إمامها لأن الإمام خليفة لله أو لرسوله وليس خليفة للأمة. والشيعة الإمامية تقول بالنص لا على إمامة علي ابن أبي طالب وحده بل على إمامة أحد عشر من ولده، كل يوصي لمن بعده. وتذهب الزيدية إلى أن الإمام يجب أن يكون هاشمياً، تقياً، ورعاً، عالماً، ومن ذرية فاطمة، على أن يخرج داعياً لنفسه. ولكن للأمة أن تختار المفضول مع وجود الأفضل، بل إنهم أقرّوا جواز مبايعة إمامين في إقليمين مختلفين في وقت واحد.
أما الخوارج (الشُراة) فقد أصدروا أحكامهم على الخلفاء الراشدين الأربعة، فأقرّوا بصحة إمامة أبي بكر وعمر، وعثمان في السنين الست الأولى، وكفروه في السنين الست الأخيرة، وأقرّوا بصحة إمامة علي قبل التحكيم، وكفّروه بعده. وهم لا يشترطون أن يكون الإمام قرشياً، بل يجيزون كونه أعجمياً، ويأخذون بمبدأ الاختيار الحر الذي يقوم به المسلمون جميعاً، فمن أجمع عليه المسلمون أصبح إماماً شرعياً وجبت طاعته. وخالفت طائفة من الخوارج فقالت بعدم وجوب الإمامة إذا تناصف الناس.
ووقف المعتزلة موقفاً ينسجم مع مبادئهم، فالإمام عندهم هو من اختارته الأمة، فهم يصححون إمامة الخلفاء الراشدين الأربعة، ويذهبون كذلك إلى جواز اختيار المفضول مع وجود الأفضل، ولا يشترطون أن يكون الخليفة قرشياً.
ومن طرق الإمامة التي أقرّها الفقهاء ولاية العهد، وهو أن يعهد الإمام إلى شخص بعينه أو بتحديد صفات معينة فيه ليخلفه بعد وفاته. وقد ذهب الفقهاء إلى جواز انعقاد الإمامة بولاية العهد إذا توافرت في ولي العهد شروط الإمامة وتمّت مبايعة الأمة له.
وقد سار على تعيين ولي العهد أبو بكر فعيّن عمر وليّاً لعهده وبايعه المسلمون، ثم عهد إلى ستة من الصحابة هم أهل الشورى ليختاروا من بينهم خليفة له.
وأما الإمامة بالقهر والغلبة فقد أقرّها فقهاء المذاهب الأربعة على أنها طريقة استثنائية لدرء المفاسد. قال ابن حجر: «أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلّب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، ولم يستثنوا من ذلك إلاّ إذا وقع من السلطان الكُفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك".
ج ـ شروط الإمامة: اشترط الفقهاء شروطاً سبعة ينبغي توافرها في الإمام هي:
1ـ أن يكون ذا أهلية تامة بأن يكون مسلماً، حُراً، ذكراً، بالغاً، عاقلاً.
أما اشتراط الإسلام فلأن الإمام يقوم بحراسة الدين، والإسلام شرط في كل ولاية عامة.
وأما اشتراط الحُريّة فلأنه وصف كمال، فليس من الجائز أن يكون صاحب الولاية أدنى في المنزلة الاجتماعية ممّن يُولَّى عليهم.
أما اشتراط الذكورة فلأن أعباء الولاية تتطلب مقدرة كبيرة لا تحتملها المرأة، ولاسيما إبّان الأحوال الخطيرة كالحرب. وقد روي عن الرسولr قوله: «لن يفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة».
واشتراط البلوغ أمر بديهي، لأن غير البالغ ليس أهلاً لتولّي مهام الولاية. والعقل مطلوب بالبديهة كذلك لأن غير العاقل لا يسعه النهوض بأعباء الولاية وتصرفه قد يلحق الضرر بمن يُولّى عليهم.
3ـ الكفاية العلمية، بأن يكون واقفاً على العلوم الشرعية، قادراً على الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية، وأن يكون واقفاً على أحوال عصره وبيئته وأمته.
4ـ حصافة الرأي في القضايا السياسية والحربية والإدارية ليستطيع اتخاذ القرارات الحكيمة في مختلف الأحوال التي تعترضه.
5ـ صلابة الصفات الشخصية بأن يكون جلداً متصفاً بالجرأة والنجدة لا تهزّه الكوارث ليتاح له حماية المولَّى عليهم.
6ـ الكفاية الجسدية، والمراد بها سلامة الجسم من الآفات والعاهات.
7ـ النسب، وهو أن يكون المرشح للإمامة قرشياً. ولم يتفق الفقهاء على اشتراط القرشية، فأهل السنة يشترطون ذلك لقولهe: «الأئمّة من قريش»، وقوله: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما استقاموا».
وخالف الخوارج والمعتزلة أهل السنة، وذهبوا إلى أن الإمامة حق لكل مسلم، عربياً كان أو غير عربي، إذا استوفى الشروط الستة السابقة.
وأضافت الشيعة إلى اشتراط القرشية أن يكون من آل البيت، فهم أحق قريش بالخلافة، ومنهم من جعلها وقفاً على أبناء فاطمة.
د ـ واجبات الإمام وحقوقه: ذكر الفقهاء للإمام طائفة من المهام منها ما هو ديني ومنها ما هو سياسي. فالمهام الدينية تجعل الإمام مرجعاً في الشؤون الدينية، يتولى حماية الدين وحفظه ومعاقبة مخالفيه، وهو يتولّى جهاد الأعداء، وجباية الفيء والصدقات، والقيام على شعائر الدين بأن يتولّى إمامة المسلمين في صلاتهم ويعلن لهم وقت صيامهم ويحج بهم، وقد يكل أداء بعض هذه الوظائف إلى والٍ أو أمير.
ويلاحظ أنه ليس من وظائف الإمام عند أهل السنة إصدار الأحكام الشرعية والاجتهاد فيها، وإنما يتولّى هذين الأمرين علماء في الدين يُؤهلهم لهما تعمقهم في شؤون الدين ومكانتهم من العلم، استناداً إلى الأصول الفقهية، ومرجعهم القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الفقهاء على حكم من الأحكام.
أما الوظائف السياسية فتتناول الحفاظ على الأمن وعلى سلامة الرعية والذود عن المسلمين إذا اعتُدي عليهم والإشراف على شؤون الدولة وإدارتها وإقامة العدل بين الناس وإدارة المال وإنفاقه في الوجوه التي تتطلبها سياسة الأمة وحراسة الملة. والإمام هو الذي يعين الحُكّام والولاة والقضاة وأمراء الجيوش وسائر أرباب المناصب الرئيسة في الدولة.
وإزاء نهوض الإمام بهذه التبعات يحظى بحقوقه على الرعية، وفي مقدمتها الطاعة في غير معصية وإنفاذ أوامره والمسارعة إلى نصرته عند الاقتضاء ما لم يبدر منه ما يسوّغ للرعية الخروج عليه، كمخالفته الصريحة للشرع والمبدأ الملتزم هو: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.